كلنا سمع عن العشق من أول نظرة ، وتساءلنا هل هو حقيقة أم محض خيال ، كنت ممن يقول أن الحب يأتي بالمعايشة وبالتآلف ، ولكني كنت مخطأ ، نعم اقر إني كنت مخطأ ، فالحب من أول نظرة موجود ، موجود ، موجود .
موجود لأني وقعت به ، موجود لأني أحسست به ، موجود لأنه جعلني اسهر الليالي ، موجود لأني جعلني اذرف الدمع مدرارا ، موجود لأن عيني الآن تدمع ، موجود لأن صدري يكاد يتقطع ، موجود لأنني ابكي عندما أتذكر محبوبتي ، محبوبتي التي عشقتها من أول نظرة وعلى البعد ،
أتذكر أن محبوبتي مغتصبة مستباحة ، مهانة ، من شرذمة قذرة دنيئة ، فعلوا فيها الأفاعيل . قتلوا أحرارها وروعوا نسائها ، وهدموا مساجدها ونبشوا قبورها ، واحرقوا أشجارها وقصفوا مبانيها ،
إيه.... كم بكيت عندما سقطت الزاوية تشرد أبطالها ، قتل من قتل وأسر من أسر وهرب من هرب .
آه .... كم بكيت وأنا أرى مسجدها يهد ، ومنارتها تتهاوى ،
إنهم تتار القرن الحادي والعشرون ، بل إن التتار كانوا اشرف منهم ، كنت أرى صور غلمان الطاغية تعبث داخل فناء المسجد وقد دمر أكثره ، يتفاخرون أنهم اغتصبوا مدينة آمنه بجحافل مجحفلة واليات ودبابات يضربونها أياما طوال ، وكيف يفخرون بمثل هذا انتصار ،
ولكن معشوقتي لم تستلم لهم بسهولة ، بل أذاقتهم الأمرين ، أذاقتهم من العذاب ألوانا ومن المهانة أصنافا .
دعوني أقص عليكم قصة معشوقتي .
خرج شبابها يوم 16 و 17 فبراير يشكون من حيف وظلم ، خرجوا ليلا ، خوفا من طاغية لا يرحم وجنود لا دين لهم إلا ثورة الفاتح ولا كتاب لهم إلا كتابه الأخضر ولا معبود لهم سوى طاغيتهم .
كانت قد سبقتها احتجاجات ليلية أيضا في 12 و 13 من فبراير ولهم نفس المطالب .
لم يعر الطاغية انتباها لمطالبهم ’ ولم يكتفي الظالم بهذا بل وقتل من خرج في بنغازي وغيرها من مدن الشرق ، لم يصبر أبناء معشوقتي على هذا الظلم فهم أحرار ونسل أحرار ، فتجاوبوا مع إخوانهم في الشرق وفي بقية المناطق ، خرجوا يوم 19 فبراير بمظاهرة كبيرة ، واعتصموا سلميا ، والاعتصام لا يكون إلا سلميا في ساحة الشهداء وبجوار بيت لله ، ظنوا أن الطاغية أو جنوده سيحترمون قدسية بيت من بيوت الله ، فهتلر رغم وحشيته كان يحترم الكنائس والأديرة .
ولكنهم جوبهوا بالحديد والنار ، اضطروا للهجوم على مراكز الشرطة ومعسكرات الجيش ومعابد الديانة القذافية المسماة المثابات الثورية ، حصلوا منها على سلاح خفيف يكون عادة مع الشرطة . كما انضم معهم الكثير من الشرطة ، وتوالت الأحداث وحتى لا أطيل عليكم فهي قصة طويلة وسأكتب فيها رواية – سأسميها قصتي مع معشوقتي –
حاصرها من كل الجهات ، دمر فيها وقتل ، ووردت منها قصص يشيب لها الغراب الأسود ، حكايات رعب وقصص بطولة ، منها ما استطيع أن أحكيه ومنها ما إن حكيته ستقولون عني كاذب مبالغ ،
لن اذكر لكم بطولات شبابها ، ولكن سأذكر لكم أربع قصص أبطالها عجوز وكهل ورجل وشاب ، ومنها ستعلمون إن الذي لم يقص إلى الآن هو الكثير والكثير .
أما العجوز فكان بيتها يطل على ميدان الشهداء ، جاءها أعوان الطاغية ليطردوها من بيتها ، فهم يريدون أن ينصبوا قناصة على سطح البيت لكي يصطادوا أبناء الزاوية كما تصاد الحيوانات أو الطيور دون شفقة أو رحمة ، رفضت ، فهي حرة ابنة حر ، عربية أبية ، قالت لا ، لن اجعل بيتي سببا في قتل مسلم ، لن تدخلوا بيتي أبدا ، جادلوها ، ارهبوها ، جرجروها ، لم تذعن لهم ، وقالت لكتائب القذافي "والله لن تدخلوا بيتي إلا على جثتي" فما كان من قائدهم إلا أن افرغ رصاصة في رأسها . ولله درها من شهيدة . لم ترضى أن تشاهد بيتها الطاهر يدنسه هؤلاء الأوغاد .
أما الرجل فهو متعلم وعلى أعلى مستويات التعليم ، كان ينعم برغد العيش ، لديه البيت والسيارة والزوجة وكل ما يحلم الإنسان أن يحققه . ولكنه أبى أن يترك بلدة ويغادر أرضه ويفارق أخوانه في الزاوية ، كان مديرا لمستشفاها ، وطبيبا مرموقا ، أبى إلا أن يبقى مع الثوار يعالج مرضاهم ويداوي جرحاهم ويجبر كسيرهم . حاولوا به أن يترك ارض المعركة ، فرفض إلا البقاء ، وبينما هو منكب على جريح يعالجه جاءته رصاصة غادرة من قناص فاجر ، فسقط إلى جوار الجريح الآخر ولقي الله شهيدا، يصدق عليه قول الله {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً }
فهو عاهد الله أن يقف إلى جوار من يحتاج اليه ، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ، فهو ممن قضى نحبه ولم يبدل ما عاهد الله عليه من الوقوف إلى جانب الحق ومن بذل ما بوسعه لتخفيف الآلام الجرحى ، لم يترك ارض المعركة لدعة عيش ولا لمنصب أو جاه أو مال.
أما الشاب ، فكان في أواخر العشرينات أوائل الثلاثينات ، وابن عائلة تنعم ببعض الغني ، لم يكن يطلب خبزا أو وظيفة ، لم يكن ينقصه إلا ما ينقص جميع الليبيين وهو الحرية والكرامة التي ثاروا من اجلها ، مر هذا الشاب فرأى منظر مهولا ، أبناء مدينته مقتّلون ومقطعون ، جثثهم ملقاة في الشارع ، يتلاعب بجثثهم أعوان الطاغية ، فثارت حميته وغلى الدم في عروقه ولسان حاله يقول
لا تأسفن على غدر الزمان لطالما رقصت على جثث الأسود كلاب
لا تحسبنّ برقصـها تعلـو على أسـيادها فالأســد أسـدٌ والكلابُ كلابُ
ولم يبتعد عن المنظر قليلا إلا وعاد بسيارته بأقصى سرعة ، ودخل بها في حافلة أولائك الجند القذرين فأرسل من أرسل منهم إلى جهنم وبؤس المصير ولاقى ربه والبسمة على شفاهه ، فدم الشهيد لن يذهب هباء
أما الكهل فحكايته عجيبة ، ولكنها دليل على ليبيا كلها لحمة واحدة ، مهما حاول الطاغية أن يفرق أهلها شيعا وأحزابا وقبائل ومدنا متناحرة ، فكلهم مسلمون وكلهم ليبيون ، هذا الكهل ضرب مثال تحتذي به أجيال . فلقد أبلغه القائد الميداني للكتائب أن ابنه قد قتل في الزاوية أثناء عمله مع الكتائب ، وطلب منه الحضور لاستلام جثته ، عندها لم يحزنه فقد ابنه ، بل غضب وقال للضابط المسئول "أرمه في البحر فهو ليس ابني" ولله انه ليذكرني بحادثة سيدنا نوح عندما رأى ابنه يصارع الموج . (و نادى نوحٌ ربه فقال ربي إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين * قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين) .، فأنكر انه ابنه لأنه عمل غير صالح ، وهذا الكهل وان عددته من أبطال الزاوية ، فهو ليس من سكان الزاوية أو أهلها بل هو من سكان مدينة صرمان ، انه بطل ليبي وبامتياز ، انه رفض الظلم الذي حاق بالزاوية ورفض الطغيان الذي يتعرض له الليبيون من كتائب الطاغية ، وأنكر ابنه ، لأنه من أزلام هذا الباغي الطاغي الفاجر
هذه بعض حكايات معشوقتي ، التي مازال أبطالها وثوارها يشاركون أخوانهم في الجبل الغربي (جبل نفوسه) في تحرير مناطق الجبل ، وما زال بعضهم يأبى الاستسلام ويقض مضاجع الطاغي وأزلامه بعمليات نوعية ، وها هم ثوار الزاوية يصاحبهم أخوتهم من ثوار جبل نفوسه وغيرها من مناطق ليبيا يقتربون من تحرير الزاوية ، يقتربون من إطلاق سراح المدينة الثكلى الأسيرة لتعود كالعروس تزدهي وتتباهى ببطولة أبنائها وبعشق عشاقها ، وهم كثر ، من كل بقاع الأرض .
اللهم عجل بنصرك ، اللهم عجل بفك اسر معشوقتي التي نذرت أن أصلى على تراب مسجدها ركعتين . نذرا لله وشكرا على نصرها ، نذرته يوم رأيت عبر التلفاز شبابها وهم يصلون سائلين الله النصر ، وان الله على نصرهم لقدير
وعلى تراب مسجد الشهداء نلتقي إن شاء الله
منقـــــول عاشق الزاويةصالح بن عبدالله السليمانكاتب مسلم عربي سعودي